فرقتهما الأيام .. ثم عادت بهما على متن باخرة
هل توقعت يوماً ان تلتقيه بعد ان فرقهما عمرٌ طويل ؟
ثم عاد بها شريط حياتها حين كانت صبية بمقتبل العمر .. تراه ذاهباً لعمله او عائداً منه .. يحييها بإيماءه مهذبة وابتسامة عذبة .. وكيف كانا يلتقيان احيانا في اجتماعات الأسرة وهما الجيران الأكثر قرباً ، فيسألها عن آخر كتاباتها .. وعن ما تقرأ الأن …
لطالما شجعها على الكتابة .. وصحح لها بعض المفردات .. كان يثنى عليها حيناً وينتقدها بشدة حيناً آخر .. وعند نهاية الزيارة بكل مرة كان يهديها كتاباً ما لتقرأه او رواية .. لأنها تعشق الروايات .. زودها بكل كتاب انتهى من قراءته .. وناقشها به في كل فرصة كانت تجمع بينهما .. بحضور العائلتين بركن هادئ بعيداً قليلاً ولكنها ابدا لم تجلس معه بشكل منفرد .
قال لها يوماً ما ستصبحين كاتبة مشهورة ، ويقرأ العالم لكاتبة من بلدي .. وستكونين فخراً لكل منا .. فاجتهدت لتكون عند حسن ظنه بها .. لا تعرف ولم تعرف يوماً ما طبيعة هذه العلاقة .. اهي الصداقة ام انه كان حباً خفياً لم تدركه بحينه .
او ربما هي الجيرة والألفة والتعود .. ولكن لا .. كان هناك الكثير من الشباب في جيرتهم ولم تهتم لغيره .. ربما كان اعجاباً وانبهاراً بشخصية مختلفة عن المحيطين بها .. فثقافته العالية واتزانه واناقته .. وصوته الدافئ .. وتشجيعه المستمر لها ورفعه من معنوياتها و قدرها بالجلسات العائلية امام اهلها والمحيطين بها كل هذا جعله بنظرها رجلاً مختلفاً .
قال لها يوماً ما ستصبحين كاتبة مشهورة ، ويقرأ العالم لكاتبة من بلدي .. وستكونين فخراً لكل منا .. فاجتهدت لتكون عند حسن ظنه بها .. لا تعرف ولم تعرف يوماً ما طبيعة هذه العلاقة .. اهي الصداقة ام انه كان حباً خفياً لم تدركه بحينه .
او ربما هي الجيرة والألفة والتعود .. ولكن لا .. كان هناك الكثير من الشباب في جيرتهم ولم تهتم لغيره .. ربما كان اعجاباً وانبهاراً بشخصية مختلفة عن المحيطين بها .. فثقافته العالية واتزانه واناقته .. وصوته الدافئ .. وتشجيعه المستمر لها ورفعه من معنوياتها و قدرها بالجلسات العائلية امام اهلها والمحيطين بها كل هذا جعله بنظرها رجلاً مختلفاً .
ورادوتها ذكرى رسمت ابتسامة خفيفة على شفتيها .. تذكرت حين كانت تجتمع الجارات لتنقيب الملوخية مثلاً او تقميع البامية ورص اوراق العنب بمطربانات الضغط .. وعبوات المياه والمشروبات الغازية الفارغة .. كيف كانت تبعد الخضروات عن الجرائد لتقرأ كل ما تقع عينها عليه .. وكانت والدته تمازح امها بنتك وابني متشابهان بامور كثيرة فهي تقرأ كما كان يقرأ حين كان صغيراً، وتلمح لها بابتسامة .. ما رأيك؟
فتجيبها الأم لا تقولي هذا الكلام البنت لسة صغيرة .. فتفهم ما عنت والدته وتحمر وجناتها فتحاول الخروج لأي سبب من تلك الجلسة .. ولكنها كانت تزهو وتحلق في فضاء غرفتها لمجرد ان هناك تشابهاً بينها وبينه …. ثم تنهدت قائلة .. ااالله على تلك الأيام الجميلة !
فالكل كان يقول انهما متشابهان وكأنهما اخوة .. ترى هل كان كأخ لها .. تتسائل بينها وبين نفسها من جديد .. لا زالت تبحث عن سبب هذا التشابه والتقارب بينهما ، وتكرر نفس الخيارات.
سنين طويلة مرت على آخر مرة رأته فيها .. منذ تركت الحي القديم مع اسرتها وانتقلوا لمنطقة اخرى .. ولكنه لم يغب يوماً عن ذاكرتها .. كلما احتاجت رواية او كتاباً تقرأه .. او كلما رأت مجلة العربي التي كان يقرأها بشكل دوري ثم يعيرها اياها بعد الأنتهاء منها بشرط ان تعيدها له سليمة .. لأنه كان يحتفظ بكافة الأجزاء منها.. تعيدها لتنال العدد الأحدث .. وهكذا حتى فرقتهما الحياة…..
دارت بها عجلة الزمن وشغلتها حتى عن الذكريات العذبة الا ما ندر منها .. فلماذا يحضرها الأن ، وبهذه القوة؟ .. هي بعيدة عن الأرض التي هو عليها .. تسافر لتلتقي بنفسها التي ضاعت منها في غفلة من الزمن .. بسبب قسوة الحياة.
على سطح الباخرة تجوب بنظرها يمنة ويسرى فلا ترى غير الماء والسماء ..وتراقبها كيف تشق البحر .. عالم هادئ وجميل
واللون الأزرق يزيد من هدوءها النفسي فتسعد بنسيم البحر مع دفء الشمس التي تغازل البحر وتعده باللقاء بعد ساعة او اكثر لتلقي بنفسها في أحضانه لتطفئ نار حبها المشتعلة . ، تتمنى بتلك اللحظة لو تقضي عمرها على متن باخرة ..
وفي اثناء تأملها بانتظار لحظة العناق بين الشمس والبحر .. راودها احساس غريب .. كأن هناك من يقف خلفها وينظر اليها .. فتجمدت حواسها واحست بخدر بظهرها فقد كان هذا الإحساس قوياً .. امسكت بالقضبان خشية ان يتسلل الشلل الى ساقيها اللتان لم تطاوعاها على الحركة .. للحظة ظنت انه دوار البحر ولكن لا .. هي لا تشعر بدوار .. ادارت وجهها بهدوء لتتأكد من صدق احساسها .. فشاهدت امامها رجلاً مهيباً لا يشبه بقية الرجال ينظر اليها بعمق ثم تقدم ووضع يديه على القضبان وحياها بابتسامة وديعة ..
يا الهى انه هو !!..
قالت بنفسها .. كيف .. لقد كانت تفكر به منذ قليل .. وتحلم بلقاءه من جديد .. تحقق حلمها والتقته .. ولكن اين ؟… في عرض البحر !!!
لو يدري كم من المرات سألت البحر عن اخباره .. وأين يمكن ان يكون .
ردت عليه التحية وهي لا تزال غير مصدقة لما يجري .. هل هو حلم آخر؟.. قلبها يضرب بقوة وكأن له جناحان يريد ان يخرج من صدرها ليطير عالياً .
كيف عرفها ولم يراها منذ سنين طويلة ؟ هو لم يتغير ولكن هي تغيرت كثيراً .. سارعها بالسؤال .. أين ظفائرك الطويلة ؟ ولماذا قصصت شعرك وغيرتي لونه الكستنائي الجميل الذي كان يميزك عن الأخريات؟ … لا زالت الصدمة تلجم لسانها وهي تنظر اليه باستغراب وابتسامة بلهاء تجمدت على شفتيها .
ثم بادرته بالسؤال ماذا تفعل هنا ؟
قال: جئت ابحث عن نفسي .. لأجد عمراً ضاع مني .. وانتِ ؟
قالت له جئت لأضيع نفسى .. وانسى عمراً ضاع مني .
قالت له جئت لأضيع نفسى .. وانسى عمراً ضاع مني .
ابتسم وقال لها ما آخر كتاباتك .. كأن الزمن لم يفرق بينهما !.. وكأن لقاءهما الأخير كان بالأمس القريب .. يسألها هكذا ببساطة كما لو ان شيئاً لم يتغير !!
هل ما زلتِ تمارسين هواياتك مثل القراءة.. و… وقبل ان يكمل سرد هواياتها قاطعته بهز رأسها كإجابة بالنفي .. سألها بانزعاج .. ولماذا؟؟؟
لأني لم اجد بحياتي ما يستحق الكتابة لأكتب عنه .. وقد اختطفتني عائلة عاملت الكتاب بين يدي كالعشيق .. وحرمتني منه.
بدأ يختفي بريق السعادة من عينيه وهو يستمع لها .. وسألها متى تزوجتي؟
هل انتِ سعيدة ؟
فقالت له تريد ان تعرف كل شئ عني وانا لم اعرف عنك شيئاً بعد .. انسى اخباري وهات اخبارك. فليس عندي ما يستحق الحديث عنه.
بدأ يختفي بريق السعادة من عينيه وهو يستمع لها .. وسألها متى تزوجتي؟
هل انتِ سعيدة ؟
فقالت له تريد ان تعرف كل شئ عني وانا لم اعرف عنك شيئاً بعد .. انسى اخباري وهات اخبارك. فليس عندي ما يستحق الحديث عنه.
اجابها بأن عمله تطور واصبح مسؤولاً مهماً بالشركة التي يعمل بها .. قالها وابتسامة الزهو المقصودة ليرسم على وجهها الإبتسامة ظاهرة عليه .. تماما كما كان منذ سنين حين يتحدث بزهو عن امر ما ليرسم ابتسامة .. ولكنه ابداً لم يكذب فلطالما كان صادقاً ورزيناً .
اقترب الموعد .. قالت له ، الأن ستلقي الشمس بنفسها بأحضان البحر .. في موعدهما الذي لا يتغير .. لقاء المساء ثم ابتسمت برضى وسعادة لأنها ستراقب الغروب معه على سطح باخرة .. بعيداً عن الناس .. تمشيا قليلاً على السطح ، وتحدثا بامور مختلفة .. ثم طلب منها النزول الى الصالة لأن الجو اصبح بارداً عليها .. فوافقت بعد ان اطمأنت ان الشمس نامت بحضن حبيبها.
جلسا على الأرائك المريحة قليلاً .. ثم استأذن منها عدة دقائق وعاد إليها حاملاً كتاباً بيده .. ليقرآة سوياً .. فالليل طويل .. وموعد العشاء بعد ساعة تقريباً .. بدأ يقرأ لها بصوته الرخيم الذي يدغدغ آذانها ويطربها .. ثم اعطاها الكتاب لتقرأ هي فيسمعها وهو مغمض العينين .
بدأت تقرأ وبعد قليل مد يده على صفحة الكتاب ووضع كفه عليه .. وطلب منها التوقف !! سألته لماذا؟
لم يجبها .. بل سألها متى آخر مرة قرأتي بها كتاباً .؟ فخجلت وقالت له اقرأ انت ..
لا .. قال لها .. انت من سيقرأ ولكن بهدوء .. وانتبهي لطبقات صوتك فلا تكُن رتيبة .. بل اقرأي بإحساس اكبر.
لا .. قال لها .. انت من سيقرأ ولكن بهدوء .. وانتبهي لطبقات صوتك فلا تكُن رتيبة .. بل اقرأي بإحساس اكبر.
تابعت القراءة وبعد قليل بدأت تعيش القصة وتعبر عنها بصوتها بطريقة افضل ولاحظت ابتسامة الرضى على وجهه .. فازدادت ثقة واكملت القراءة .. حتى موعد العشاء .. ثم ذهبا الى المطعم تناولا عشاءاً خفيفاً و عادا مع القهوة ليكملا الكتاب.
ناقشها ما بقي من الليل بالكتاب حتى بدأ الفجر يرسل خيوطه .. فاستأذنت منه لتنال بعض الراحة .. فتمنى لها نوماً هنيئاً واكد عليها ان يلتقيا على الإفطار .. اجابت بإيماءة الموافقة ورفعت يدها بتكاسل لتودعه وهي تسير بطريقها الى قمرتها .
لم تنم كثيراً ولم يكن نومها متواصلاً .. ولكن ما ان اشرقت الشمس وملئت الدنيا نوراً حتى نهضت .. اخذت حماماً سريعاً لتستعيد نشاطها وحيويتها وصعدت الى المطعم ..
وجدته بركن جانبي وقد اختار طاولة صغيرة .. ابتسمت وهي تحييه بتحية الصباح وجلست مقابله ولكنها استغربت انه لم يبدل ثيابه ويبدو عليه التعب والشحوب .. كيف وهو الأكثر اناقة .. يعود بنفس الثياب .. ثم سألته هل نمت جيداً .. فقال لها لا
خرجت للسطح شاهدت الشروق ثم نزلت الى الصالة بانتظار موعد الإفطار لأختار افضل طاولة .. يا الهي قالت له: لم تنم مطلقاً .. ولكن هذا لا يجوز .. قال لها لا وقت للنوم
مساءاً سنصل الى وجهتنا وسننام كثيراً .. بعد الإفطار اخذا قهوتهما الى السطح مجدداً، كانت تراقبه كيف يشرب القهوة ويدخن .. وينفث الدخان في الهواء على شكل دوائر
يبددها نسيم الصباح ببطئ .
مساءاً سنصل الى وجهتنا وسننام كثيراً .. بعد الإفطار اخذا قهوتهما الى السطح مجدداً، كانت تراقبه كيف يشرب القهوة ويدخن .. وينفث الدخان في الهواء على شكل دوائر
يبددها نسيم الصباح ببطئ .
ما اجمل رائحة القهوة مع دخان السجائر .. هذا ما تبادر لذهنها .. ابتسمت بداخلها فهي لم تحب يوماً رائحة الدُخان !.
تجاذبا اطراف الحديث .. وصف لها الفجر والشروق .. سحره وروعته .. ومدى روعة مشاهدة ولادة نهار جديد من قلب الظلام …..
تجاذبا اطراف الحديث .. وصف لها الفجر والشروق .. سحره وروعته .. ومدى روعة مشاهدة ولادة نهار جديد من قلب الظلام …..
استمعت له بإصغاء واستمتاع شديد بصوته الدافئ .. ثم سادت لحظات من الصمت .. كلاهما شارد و عيونه تسبر البحر وكأنها تصل الى عمقه .. ثم قطع الصمت سؤاله لها
هل تريدين العدد الجديد من مجلة العربي؟ انه معي في الغرفة .. قالت لا .. ارغب بالجلوس معك بهدوء لا وقت للقراءة الأن، وبدأت تسأله مجدداً عن اخباره واخبار الأهل .. لتسمع صوته اكثر واكثر .. وهو يسرد اخبار وبعض نوادر العائلة.
ثم تحدث عن بعض انجازاته العملية .. وعن مشاريعه بعد التقاعد الذي ليس ببعيد .
مر اليوم سريعاً .. وها هو الغروب آت لا محالة .. فشهدا معاً لحظة الغروب مجدداً ، وتمنت لو انها تحتضن الشمس والبحر معا بتلك اللحظة ، ونزلا بعدها الى غرفهم للتحضّر عندما ترسو الباخرة.
عادا ليقضيا بقية الوقت في المطعم مع قهوة المساء .. مدت يدها الى سجائره وسحبت واحدة .. استغرب من حركتها تلك ، وسألها هل تدخنين قالت لا .. فرجاها ان لا تدخنها إذاً.
ساد صمت طويل بعدها وهي تفكر كيف ستودعه .. وهل ستراه من جديد ؟.
ساد صمت طويل بعدها وهي تفكر كيف ستودعه .. وهل ستراه من جديد ؟.
رست الباخرة .. وبدأ الناس بالنزول منها وهما لا يزالان في الصالة والصمت يسيطر على الموقف ينظران الى حقائبهما تارة والى بعضهما تارة اخرى .
ثم نهضت فجأة لتكسر هذا الصمت، ومدت يدها له مصافحة إياه قائلة حان وقت الفراق الأن .. تمنت له اجازة سعيدة ….
ثم جرت حقيبتها ورائها وهي تفكر بالعودة لتراه وتودعه من جديد .. ولكنها لم تفعل .. ولم تدر وجهها ولا حتى لإلقاء نظرة اخيرة.
وعلى الميناء لم تراه ايضا .. ولم تعرف إن كان لا يزال على ظهر الباخرة ام لا .. لبست نظاراتها الشمسية بالرغم من ان الوقت كان ليلاً لتبحث عنه بعيونها دون ان يلاحظها احد .. ولكنها لم تجده ..
ركبت السيارة مع اصدقائها الذين كانوا بانتظارها وغادرت الميناء .. و كان هذا لقاءهما الأخير .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق